السبت، 25 يونيو 2016

الحكم العطائية ( الحكم 61 - 70 )

الحكم العطائية ( الحكم 61 - 70 ) ابن عطـاء الله السّـكندري


• • الحكمة الحادية والستون :
« ما قادك شيء مثل الوهم »
- يعني أنّ انقياد النّفس إلى الأمور الوهمية الباطلة أشد من انقيادها إلى الحقائق الثابتة . فتوهّم النّفع من المخلوقين هو السّبب في الطمع في النّاس وهو في الحقيقة مبنيّ على غير أساس لأنّ الطّمع تصديق الظنّ الكاذب والطّمع فيهم طمع في غير مطمع ولذلك كانت أرباب الحقائق بمعزل عنه فلا تتعلّق همّتهم إلا بالله ولا يتوكّلون إلا على الله قد ترقت عن ملاحظة الأغيار قلوبهم، فلم يحل فيها الطمع واتّصفوا بصفات الكمال التي من أجلها الزّهادة والورع فأحياهم الله حياة طيبة بالقناعة ولم يكشف أحد منها لمخلوق قناعه تخلصاً من رقّ الأغيار وتطلّبا لأن يكون من الأحرار.


• • الحكمة الثانية والستون :
« أنت حرّ مما أنت عنه آيس، وعبد لما أنت له طامع »
- أي أنت حرّ من كل شيء أنت عنه أي منه آيس لأن اليأس من الشيء دليل على فراغ القلب منه وذلك عين الحرية منه كما أن الطمع في الشيء دليل على الحب له وفرط الاحتياج إليه وذلك عين العبودية له وقوله لما أنت له أي فيه طامع . فالطامع عبد واليائس حر كما قيل : العبد حر أن قَنِعْ والحر عبد أن قَنَعْ .. فاقنَع ولا تطمع فما شيء يشين سوى الطمع
وقوله : ( إن قنع ) في آخر المصراع الأول بكسر النون بمعنى رضي والثاني بفتحها بمعنى سأل وقوله: ( فاقنَع ) بفتح النون أمر من القناعة
وما ألطف قول بعضهم :
اضرع إلى الله لا تضرع إلى الناس .. واقنع بعز فإن العز في اليأس
واستغن عن كل ذي قربى وذي رحم .. إن الغني من استغنى عن الناس

• • الحكمة الثالثة والستون :
« من لم يُقبل على الله بملاطفات الإحسان، قيد إليه بسلاسل الامتحان »
- أي من لم يُقبل على الله تعالى بسبب ملاطفاته هي الإحسان قيد بالبناء للمفعول أي قاده الله إليه بالامتحانات الشبيهة بالسلاسل، فالنفوس الكريمة تقبل على الله لإحسانه والنفوس اللئيمة لا ترجع إليه إلا ببلائه وامتحانه . ومراد الرب من العبد رجوعه إليه طوعاً أو كرهاً


• • الحكمة الرابعة والستون :
« من لم يشكر النعم فقد تعرض لزوالها، ومن شكرها فقد قيدها بعقالها»
- فيه تشبيه النعم بالإبل التي شأنها النفار أن لم تقيد بالعقال على سبيل المكنية وإثبات العقال تخييل والتقييد ترشيح . ومن كلامهم : الشكر قيد للموجود وصيد للمفقود . وناهيك قوله تعالى : { لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ } {إبراهيم:7} وهو لغة : فعل ينبئ عن تعظيم المنعم بسبب كونه منعماً
على الشاكر أو غيره سواء كان ذكراً باللسان أو عملاً بالأركان أو اعتقاداً بالجنان . كما قال الشاعر:
وما كان شكري وافياً بنوالكم ولكنني حاولت في الجهد مذهبا أفادتكم النعماء مني ثلاثة يدي ولساني والضمير المحجبا
وفي الاصطلاح : صرف العبد جميع ما أنعم الله به عليه فيما خلق لأجله
وقد قيل للجنيد - وهو ابن سبع سنين - يا غلام ما الشكر ؟ فقال : أن لا يعصى الله بنعمه

• • الحكمة الخامسة والستون :
« خَفْ من وجود إحسانه إليك، ودوام إساءتك معه: أن يكون ذلك استدراجا لك؛ { سنستدرجهم من حيث لا يعلمون } [الأعراف:182] »
- أي خف - أيها المؤمن - من وجود إحسانه سبحانه عليك مع دوام إساءتك معه بترك أوامره أن يكون ذلك استدراجاً أي تدريجاً لك شيئاً فشيئاً حتى يأخذك بغتة . فإن الخوف من الاستدراج بالنعم من صفات المؤمنين كما أن عدم الخوف منه مع الدوام على الإساءة من صفات الكافرين .
قال تعالى : { سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ } [الأعراف:182]
أي لا يشعرون بذلك وهو أن يلقي في أوهامهم أنهم على شيء وليسوا كذلك يستدرجهم بذلك حتى يأخذهم بغتة .
كما قال تعالى : { فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ } إشارة إلى مخالفتهم وعصيانهم
{ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ } أي فتحنا عليهم أبواب الرفاهية
{ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا } من الحظوظ الدنيوية ولم يشكروا عليها
{ أَخَذْنَاهمْ بَغْتَةً } أي فجأة { فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ } [الأنعام:44] أي آيسون قانطون من الرحمة .
وقيل في قوله تعالى { سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ } . .نمدهم بالنعم وننسيهم الشكر
عليها، فإذا ركنوا إلى النعمة وحجبوا عن المنعم أخِذوا .


• • الحكمة السادسة والستون :
« من جهل المريد: أن يسيء الأدب، فتؤخّر العقوبة عنه، فيقول: لو كان هذا سوء أدب لقطع الإمداد، وأوجب الإبعاد؛ فقد يقطع المدد عنه من حيث لا يشعر، ولو لم يكن إلا منع المزيد. وقد يقام مقام البعد وهو لا يدري ولو لم يكن إلا أن يخليك وما تريد. »
- يعني أنّ من جهل المريد بحقائق الأشياء أن يسيء الأدب إما مع الله بنحو الاعتراض عليه في أفعاله كأن يقول : ليت هذا الأمر لم يكن . وإما مع المشايخ بنحو الاعتراض عليهم وعدم قبول إشارتهم فيما يشيرون به عليه وإما مع بعض الناس بنحو الازدراء بهم . فتؤخر العقوبة عنه أي عن ذلك المريد بأن لا يعاقب في ظاهره بالأسقام والبلايا ولا في باطنه بحسب زعمه فيقول : لو كان الذي وقع منه سوء أدب لقطع الإمداد بكسر الهمزة - مصدر أمده أو بفتحها جمع مدد - أي ما يرد من بحر إفضال الواحد الصمد .
وأوجب الإبعاد أي ببعدي عنه . وإنما كان ذلك جهلاً من المريد لأنه قد يقطع المدد عنه من حيث لا يشعر ولو لم يكن من قطع المدد عنه إلا منع المزيد أي الزيادة من المدد لكان كافياً في قطعه . فجواب لو محذوف .
وقد يقام - أي ذلك المريد - مقام أي في مقام البعد وهو لا يدري ولو لم يكن من إقامته في مقام البعد إلا أن يخليك - أيها العبد المسيء - وما تريد بأن يسلط نفسك عليك ويمنع نصرتك عليها لكان ذلك كافياُ في البعد .
وفي هذا التفات من الغيبة إلى الحضور فإنه التفت إلى مخاطبة المريد كأنه حاضر بين يديه . ولعمري إنه يستحق هذا التصنيف .
فإن قوله : ( لو كان هذا سوء أدب ) يشعر برضاه عن نفسه الذي يوجب الملام عليه فإن الرضا عن النفس لا يشأ عنه إلا كل ضير كما أن اتهامها وعدم الرضا عنها أصل كل خير


• • الحكمة السابعة والستون :
« إذا رأيت عبدا أقامه الله تعالى بوجود الأوراد، وأدامه عليها مع طول الإمداد فلا تستحقرن ما منحه مولاه لأنّك لم تر عليه سيما العارفين، ولا بهجة المحبين؛ فلولا وارد ما كان ورد»
- اعلم أنّ عباد الله المخصوصين على قسمين : منهم من أقامه الحقّ بوجود الأوراد بأن أظهرها منه، والمراد بها ما يقع بكسب العبد من أنواع العبادات الموظفة على الأوقات كصلاة وصيام وذكر ونحو ذلك. وهؤلاء هم العباد والزهاد الذين عملوا لرفع الدرجات في علي الجنات فعملوا لحظوظهم ولمن يمحضوا النظر إلى وجه ربهم .
ومنهم من أخذوا عن حظوظهم ولم يطلبوا إلا وجه ربهم وهم العارفون والمحبون . فإذا رأيت عبداً من الفريق الأول أقامه الله بوجود الأوراد وأدامه عليها أي جعله مداوماً عليها مع طول الإمداد أي إدامة المعونة والتيسير فلا تستحقرن ما منحه أي أعطاه مولاه . وعلل الاستحقار بقوله: لأنك أي لكونك لم تر عليه سيما العارفين أي علامتهم
من ترك الحظوظ والإرادات ولا بهجة المحبين من الشغف بمرضاة محبوبهم من غير نظر إلى عليّ الجنات . ثم علل عدم الاستحقار بقوله :  فلولا وارد أي تجل إلهي أورده الله على قلبه ما كان ورد، أي عبادة فهو لم يخرج عن دائرة العناية ولم يبعد عن الملاحظة والرعاية . فلا تستقل ما منحه مولاه فإن كل فريق قام بحق المقام الذي أقامه الحق فيه وتولاه


• • الحكمة الثامنة والستون :
« قوم أقامهم الحق لخدمته، وقوم أختصهم بمحبته؛ { كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاء وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا }[الإسراء:20]»
- أي قوم اختارهم الحق تعالى لخدمته حتى صلحوا لجنته وهم العابدون وقوم اختصهم بمحبته حتى صلحوا لدخول حضرته وهم العارفون والمحبون والكل منتسبون إلى خدمته لكن خدمة الأولين أكثرها بالجوارح والآخرين أكثرها بالقلوب على حسب ما يليق بكل من القسمة الأزلية التي منحها لهم علام الغيوب . كما قال تعالى :
{ كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاء وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا }
أي ممنوعا . فإذا شهد العبد انفراد الله تعالى بهذه الإقامة رجع عن الاحتقار فإنّ ذلك من الجهل بحكمة العزيز الغفّار

• • الحكمة التاسعة والستون :
« قلما تكون الواردات الإلهية إلا بغتة؛ لئلا يدعيها العُبَّاد بوجود الاستعداد»
- أي أن الواردات الإلهية التي هي الأسرار العرفانية يقل حصولها غير بغتة أي فجأة من غير استعداد لها بعبادة لئلا يدّعيها العُبَّاد - بضم العين المهملة وشد الموحدة جمع عابد – بوجود الاستعداد لها . فإن تحف الله تعالى وهداياه مقدسة عن أن تعلل بالأعمال لأنها من مواهب الغني
المفضال فحصولها بغير استعداد كثير وأما حصولها بالاستعداد فنزر يسير


• • الحكمة السبعون :
« من رأيته مجيبا عن كل ما سئل، ومعبّرا عن كل ما شهد، وذاكرا كل ما علم: فاستدل بذلك على وجود جهله »
- يعني : أنك إذا رأيت إنسانا مجيبا عن كل ما سئل فيه من المسائل ومعبرا عن كل ما شهده أي ذاقه بباطنه من العلوم والمعارف وذاكرا كل ما علم فاستدل بذلك على وجود جهله . أما الإجابة عن كل سؤال فلاقتضائها منه الإحاطة بجميع المعلومات وذلك محال في حقه . قال تعالى :
« وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا » {الإسراء:85} وما ألطف قول بعضهم :
ومن كان يهوى أن يرى متصدرا ويكره لا أدري أصيبت مقاتله وأما التعبير عن كل مشهود فلأن فيه نوعا من إفشاء السّر الذي أمروا بكتمه فإنهم قالوا : قلوب الأحرار قبور الأسرار ولأن مدارك الشهود يضيق عنها نطاق التعبير بالعبارة ولذلك اكتفى العارفون فيما بينهم بالإشارة كما قال
بعضهم : علمنا إشارة فإذا صار عبارة خفي .
وأما الذكر لكل معلوم فلعدم تفرقته بين المعلومات وقد يكون له علم يختص به فإذا ذاكره لغيره استغربه كما قال بعض العارفين : إني لأكتم من علمي جواهره كي لا يرى الحق ذو جهل فيفتتنا



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

author
زاد الروح
رسالة الوعي والتفكّر لا حدود لها وهاهنا بعضُ زادٍ منها لنمضي في طريق الوعي الفكري والعلم . مرحبا بكم في « زاد الرّوح » أحد مواقع بوابة يوتوبيا لتطوير الذات وتنمية الشخصية