الأربعاء، 11 مايو 2016

الحكم العطائية ( الحكم 11- 20)


الحكم العطائية ( الحكم 11-20) ابن عطـاء الله السّـكندري



• • الحكمة الحادية عشر: « ادفن وجودك في أرض الخمول، فما نبت مما لم يُدفن لا يتم نتاجه »
الخمول هنا هو الابتعاد عن الأضواء و أسباب الشهرة، أي أن يكون الإنسان مجهولا لدى الآخرين.
و يعني ابن عطاء الله بحكمته هذه أن ابتعد بنفسك لترعى ذاتك و تنضج عقلك و تربّي نفسك و تصفّي سريرتك من الشوائب كعالَم النّبات الذي يُستنبت حين يكون مدفونا في الأرض و الذي يمر بمرحلتين:
- مرحلة التأسيس في باطن الأرض
- مرحلة النمو و العطاء
فابن عطاء يقول أنه قبل الظهور على مسرح الأحداث يجب أن تتعهّد نفسك بالتربية و التزكية من معوقاتها (نفس أمارة بالسوء، شهوات، أهواء...). أما إن قفز الإنسان عن هذه المرحلة، فإنه يكون كالنّواة التي على وجه التراب و بين الحجارة فلن تنمو أبداً
ومصدر هذه الحكمة سيرة خير الورى محمد صلّى الله عيه و سلم، الذي حُبّب إليه الخلاء قبل بعثته عليه أفضل الصلاة و أزكى السلام
إن على الإنسان ثلاثة أمور للنهوض بواجباته اتجاه المجتمع:
1- العلم:ففاقد الشيء لا يعطيه
2- تزكية النفس: فهي تطمح دائما إلى حب الظهور و الزعامة و جمع المال و لا مناص لثنيها إلا بتعهدها بالتزكية
3- تطهير القلب من محبّة الأغيار: و هي الأنداد، و المنافسون لله تعالى على قلوب الناس من مال و زعامة و أولاد و زوجة
أما السبيل لذلك هي تنظيم خلوات منتظمة لمعرفة ذاتنا و الوقوف على هويتنا كعباد لله عز و جل، و ذلك باتخاذ ورد دائم من أجل الصّفاء من تلاوة و تدبر للقرآن، و لا يكون ذلك إلا باتخاذ خلوة بعيدا عن المجتمع و ضوضاءه.
فنحن حين نحب أن نحل مشكلا دنيويا نحتاج للانعزال و توفير الظروف الملائمة الهادئة لحلها، فما بالك بأمور الدين ..


• • الحكمة الثانية عشر: « ما نفع القلب مثل عزلة يدخل بها ميدان فكرة »
تُركز الحكمة على ضرورة اتخاذ الإنسان ساعات من العزلة بين الفينة والأخرى يخلو فيها إلى
نفسه كي يُقومها ..
والعزلة ليست مطلوبة لذاتها، بل هي مناسبة للتفكّر و التأمّل، فيما يفيد الإنسان و يقربه من ربه
.. أما المراد بكلمة فكرة، هو موضوع يشتغل به الفرد بغية التقرّب لله عز و جل لمعرفة هويته كعبد
و لمعرفة ذات ربه سبحانه و تعالى. فقد يكون موضوع الفكرة قرآنا، أو تفكّرا أو سيرة نبوية ..
والهدف من ذلك هو تقويم المسار و إيقاظ العقل نحو الحقيقة الكونية الكبرى


• • الحكمة الثالثة عشر : « كيف يُشرق قلب صور الأكوان منطبعة في مرآته ؟!  أم كيف يرحل إلى
الله وهو مكبّل بشهواته ؟! أم كيف يطمع أن يدخل حضرة الله وهو لم يتطهّر من جنابة غفلاته؟!
أم كيف يرجو أن يفهم دقائق الأسرار وهو لم يتب من هفواته؟! »..
الإنسان قلب و عقل، بهما كانت الحضارة و العمران .. العقل مهمته الإدراك و الوعي، و القلب
مُلتقى العواطف الدافعة (الحب و التعظيم) و الرّادعة (الخوف و الكراهية) و المُمجدة (الانبهار و
الإعجاب و الإجلال)
و هو - أي القلب - لوحة ذات حساسية مرهفة تتفاعل مع ما يقع عليه بصرك من الدنيا، فإن كان
منسجما مع لوحتك أحببته، و إلا كرهته.
فالقلب إذن ليس إلا مرآة تعكس صورا من أحوال صاحبه .. فإن وُجِّهَت إلى بئر مظلمة صارت
سوداء، و إن وُجّهَت إلى شمس ساطعة كانت بيضاء... فإن كانت الدنيا هي آمال الإنسان، كان
قلبه و عواطفه مجنّدة لتحقيق ذلك، و أنى حينها لوجود الله أن يجد متسعا في قلبه ؟؟ 
«كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ » {المطففون:14}
فالرّان حينها يطبع القلوب و يمنع صاحبه من العودة إلى الله بالرّغم من معرفة الطريق الصحيح ..
لكن لماذا أُغلق القلب بتلك الطريقة ؟ و لماذا استقرت صور الأكوان في القلب بدل صفات المُكّون،
رغم أن العقل موقن بالله و وحدانيته و صفاته ؟هذا التساؤل يُجيبنا عليه المقطع الثاني من الحكمة:
2. أم كيف يرحل إلى الله وهو مكبل بشهواته؟!
إنّ صور الأكوان لا تنطبع في القلب إلا بسبب الشهوات التي تُكبّل و تُخلد إلى الأرض، فتُنسي المُكون .. فالعلاج إذن هو التحرر من الشهوات .. أمّا كيف ؟ يقول ابن عطاء:
3. كيف يطمع أن يدخل حضرة الله وهو لم يتطهر من جنابة غفلاته ؟! فأصل الوقوع في الشهوات
هي الغفلة عن الله عز و جل و علاج ذلك:
4. أم كيف يرجو أن يفهم دقائق الأسرار وهو لم يتب من هفواته؟! فكثرة الهفوات توقع في الغفلة
عن الله عز و جل، فإن غفلت عن ربّك .. كان وقوعك في الشهوات سهلا، و إن ألفْتَ الشّهوات ..
غلب على قلبك الران و العياذ بالله فالحل إذن هو التغلب على أصل المشكلات و هو الاستسلام
للهفوات و الآثام، و ليس مطلوبا العصمة، و لكن المطلوب هو الحرص على الابتعاد عن المعاصي
جهد المستطاع ثم التوبة المستمرة و استشعار مراقبة الله عز و جلّ.
إن من نتيجة التغلب على الهفوات هو التحرّر من الغفلة فتدخل بذلك حضرة الله عز و جل، و هي
مرتبة الإحسان " أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تره فإنه يراك ".
و هذه اليقظة القلبية تجعل نفسك تكبح جماح شهواتها، و ترحل إلى ربها، فيزيد حب الله في قلبك.
لكن...قد يتسائل أحدنا كيف ترى العينان صور المكونات، ثم لا تستقر الصّورة في الذاكرة و من ثم
على صفحات القلب ؟ والإجابة: كل ابن آدم ينقل صور المكونات من عينيه إلى الذاكرة و منها إلى
القلب، فإن كان نابضا بحب الله، فإن الصور التي يتلقاها هي بمثابة آيات ناطقة بوجود الله و
وحدانيته، و إن كان غير ذلك يتيه بالآثار عن المُؤثر و بالصّنعة عن الصانع ثم يغفل و يبدأ في
الانزلاق. فآيات الله هي إنما جسر إليه: 
« إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ » {آل عمران:190}



• • الحكمة الرابعة عشر« الكون كله ظلمة ، وإنّما أناره ظهوره الحق فيه ، فمن رأى الكون ولم يشهده فيه ، أو عنده ، أو قبله ، أو بعده – فقد أعوز وجود الأنوار وحجبت عنه شموس المعارف
بسحب الآثار »..
أي أن الكون بالنظر إلى ذاته كله ظلمة لأنه لا وجود له بذاته وإنما أناره أي أوجده ظهور الحق
تعالى فيه أي ظهور إيجاد وتعريف لا ظهور حلول وتكييف بمعنى أنه تجلّى عليه بذاته وقال له كن
فكان وهو قادر على إعدامه في الحال والاستقبال فليس ثَمّ إلا مبدع الأكوان  ثم أن من الناس من
حجبه الكون أي المكونات عن المكون تعالى فلم يشهده سبحانه أي فلم يشاهد تأثيره فيه وهو
الذي قد أعوزه أي فاته وجود الأنوار فصار محتاجا لها لفقدها عنده وحجبت أي غابت عنه شموس
المعارف أي المعارف التي هي كالشموس في إظهار الأشياء والكشف عن حقائقها ، فإضافة
شموس إلى المعارف من إضافة المشبه به للمشبه كإضافة سحب إلى الآثار - جمع أثر - بمعنى
المكونات الشبيهة بالسُحُب قد منعت عنه المعارف الشبيهة بالشموس الكاشفة عنه الحقائق
الموصلة إلى حضرة القدوس ومن الناس من لم يحجبه الكون عن المكون سبحانه وتعالى بل
شهده فيه بتأثيره وعنده بحفظه وتدبيره وهؤلاء الذين يشهدون الأثر والمؤثر معا .  
ومنهم من شهده قبله وهم الذين يستدلون بالمؤثر على الأثر . ومنهم من شهده بعده وهم الذين
يستدلون بالأثر على المؤثر وهذه الظروف المذكورة في كلام المصنف ليست زمانية ولا مكانية فإنّ
الظروف من جملة الأكوان بل هي اصطلاحات ليس المراد منها ظاهرها عند ذوي العرفان وإنما
تدرك بالذوق لا بالتعبير . فقف عند حدك وتمسك بقوله تعالى :
« ليس كمثله شيء وهو السميع البصير » صَدَقَ الله العَظيم  {الشورى:11}


• • الحكمة الخامسة عشر : « مما يدلك على وجود قهره – سبحانه – أن حجبك عنه بما ليس بموجود معه »..
إنّ قوام الأشياء كلها بالله عز وجل أي إن نوراً ربانياً يسري إلى المكونات فتنهض بمهامها ووظائفها
التي وكلت إليها .
فكل شيء من المكونات، صغر أو كبر، عاكف على وظيفته التي كلف بها بسرّ من النور الإلهي الهابط إليه والساري في أعماقه.
وهذا معنى قوله عز وجل: «كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ » {النور: 24/41}
فإذا عرفنا أن كل شيء في هذا الكون منور بنور الله فما الذي يحجبك إذن عنه؟ ولو بعثت بنظرك
إلى الملأ الأعلى.. إلى الملأ الأدنى.. إلى الأطراف والآفاق كلها، ستجد أنه ما من شيء إلا وهو
منوّر بنور الله في ظاهره وباطنه.
فما هو هذا الذي يحجبك عنه، مع ما قد علمناه من أن كل ما في الكون من الموجودات مغموس
بالنور الإلهي في ظاهره ومتقوم بهذا النور سارياً في داخله؟
وإذا لم يكن هنالك شيء ذو وجود مستقل يصلح أن يقوم حاجزاً يقصيك عن شهود الله، لأن كل ما
هو موجود مستنير بنور الله ودال على عظيم صنع الله، فالمفروض إذن أن لا يحجبك عنه شيء.
ـ قاهرية الله هي التي تحجب كثيراً من الناس عن الله بدون حجاب ولكنّ قاهرية الله عز وجل
تجعل من اللاشيء شيئاً، وتريك حال كثيرين من الناس وقد حجبوا عن الله عز وجل بما ليس له
وجود حقيقي أي بما ليست له كثافة ذاتية تغالب النور الإلهي الساري في كل شيء، فتغلبه
وتغيّبه عن البصائر والعقول.
وهذا ما يعنيه ابن عطاء الله بقوله: «مما يدلك على وجود قهره سبحانه أن حجبك عنه بما ليس
موجوداً معه» .
كلنا يعلم أن كثيرين هم الذين حجبوا عن شهود الله ومعرفته، على الرغم من أنه لا يوجد ما
يحجب العقل عن الله، لأن كل ما هو موجود مستنير بنوره ومن ثم فهو دال عليه.. تأمل في حال
الملاحدة والمعاندين والمستكبرين تجد أنهم محجوبون فعلاً عن شهود الله. ولكن بأي شيء
حجبوا عنه؟.. إنما حجبوا عنه بقهره وبطشه. وقاهرية الله لا تحتاج إلى أداة يستعان بها للستر أو
الحجب، كما هو الشأن فيمثال الغرفة والمصباح. وإنما يتوقف الأمر على القرار الإلهي فقط، الدال
عليه قول الله تعالى: « وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ» { الأنفال: 8/24 }
ولكن من هم الذين قهرهم الله بحجبهم عنه دون حاجب؟
هم المستكبرون الذين آثروا التعامل مع الحقائق بمشاعر استكبارهم بدلاً من موازين عقولهم .
هم الذين حاق عليهم غضب الله ومقته. وإنما يحيق مقته وغضبه بالمعاندين والمستكبرين عليه
فقط، دون بقية الناس جميعاً.
من الناس من يستبدّ بهم الكبر والعناد، فيتجاهلون النور الإلهي الذي تفيض به المكونات كلها،
والذي يشعّ مرآه في أبصارهم وبصائرهم، ثم إنهم يصرون إصرارهم المستكبر على تجاهلهم
الكاذب، فيحيق بهم غضب الله العاجل في الدنيا، ويحجبهم عن شهود ذاته العلية دونما حجاب!..
ويغيبهم عن رؤية حكمه وسلطانه دونما حاجة إلى أي حاجز يغيبهم به عنه. وإنما هو نوع من
العمى يسدله على أبصارهم وبصائرهم، فإذا هم محجوبون عن شهود الله عز وجل غائبون عن
دلائله وأنواره التي تفيض بها المكونات كلها، وقد كانوا قبل ذلك يرونها أو يدركونها متجاهلين
مستكبرين. فهؤلاء هم الذين قال الله عنهم: « وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ
لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولَئِكَ كَالأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ »
{الأعراف: 7/179 }
إن عدم فقه القلوب، وعدم إبصار الأعين، وعدم سماع الآذان، لا يتوقف على حاجز موجود يحول
دون ذلك. بل يكفي أن يُفْقِدَ الله عز وجل منها الإدراك والإبصار والإسماع، وإذا هي كما شاء الله عز
وجل: لا تفقه ولا تبصر ولا تسمع.
ألا تعلم أن في أعين الناس أعيناً لا شِيَةَ فيها ولا عيب، ومع ذلك فهي تحدق في الأشياء دون أن
تراها؟..
ألا تعلم أن فيها ما قد أصيب بما يسمى عمى الألوان، دون وجود أي عطب أو حائل فهي تبصر
الأشياء دون أن تدرك ألوانها؟!..
إن الذي غضب الله عليه، يُحجب عن شهود الله والدنو من حضرته بسرّ من الغضب ذاته، ويتحول
قلبه إلى ما يشبه قطعة من الحجر الصلد، بل يؤول به الأمر إلى ما هو أقسى من الحجارة. ألم
تقرأ قول الله تعالى: « ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ
الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ
اللَّهِ وَما اللَّهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ » { البقرة: 2/74 }
فالمعصية التي تصادف قلباً موقناً بذل العبودية لله، لا تكون سبباً للقهر الذي يتحدث عنه ابن عطاء
الله هنا، ذلك القهر الذي يحجب العبد عن الرب ويزجه في تيه من الظلام لا نجاة له منه.إنما يأتي
هذا القهر من المعصية التي تكون بسائق الاستكبار على الله عز وجل. إذ هو الداء القاتل الذي لا
منجاة منه. يقول الله عز وجل: « سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ..»
{ الأعراف: 7/146 }


• • الحكمة السادسة عشر: كيف يتصور أن يحجبه شيء ، وهو الذي أظهر كل شيء ؟ كيف
يتصور أن يحجبه شيء ، وهو الذي ظهر بكل شيء ؟ كيف يتصور أن يحجبه شيء ، وهو الذي
ظهر في كل شيء ؟ كيف يتصور أن يحجبه شيء ، وهو الذي ظهر لكل شيء ؟ كيف يتصور أن
يحجبه شيء ، وهو الظاهر قبل وجود كل شيء ؟ كيف يتصور أن يحجبه شيء ، وهو أظهر من كل
شيء ؟ كيف يتصور أن يحجبه شيء ، وهو الواحد الذي ليس معه شيء ؟ كيف يتصور أن يحجبه
شيء ، وهو أقرب إليك من كل شيء ؟ كيف يتصور أن يحجبه شيء ، ولولاه لما كان وجود كل
شيء ؟ عجبا .. كيف يظهر الوجود في العدم  أم كيف يثبت الحادث مع من له وصف القدم !
الشرح: بيّن المصنف في هذه الحكمة الأدلة التي تدل على أنّه سبحانه لا يحتجب بالأكوان وأتى
بها على وجه استبعاد أن يتصوّر ذلك في الأذهان فقال : كيف يتصور أن يحجبه شيء وهو الذي
أظهر كل شيء حيث إنه هو الذي أوجده بعد العدم وما كان وجوده متوقفا عليه لا يصح أن يحجبه
وقوله : ظهر بكل شيء أي من حيث أن كل شيء يدل عليه فإن الأثر يدل على المؤثر وفي كل
شيء له آية تدل على أنه الواحد قال تعالى: « سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق » {فصلت: 53}
وقوله : ظهر في كل شيء أي من حيث أن الأشياء كلها مجالي ومظاهر لمعاني أسمائه فيظهر
في أهل العزة معنى كونه معزا وفي أهل الذلة معنى كونه مذلا وهكذا.
وقوله : ظهر لكل شيء أي تجلى لكل شيء حتى عرفه وسبحه . كما قال تعالى: « وإن من
شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون » {الإسراء: 44}
وقوله : وهو الظاهر قبل وجود كل شيء أي فهو الذي وجوده أزلي وأبدي فوجوده ذاتي والذاتي
أقوى من العرضي فلا يصح أن يكون حاجبا له.
وقوله : وهو أظهر من كل شيء أي لأن الظهور المطلق أقوى من المقيد وإنما لم يدرك للعقول مع
شدة ظهوره لأن شدة الظهور لا يطيقها الضعفاء كالخفاش يبصر بالليل دون النهار لضعف بصره لا
لخفاء النهار على حد ما
قيل: ما ضر شمس الضحى في الأفق طالعة أن لا يرى ضوءها من ليس ذا بصر .
وقوله : وهو الواحد الذي ليس معه شيء أي لأن كل ما سواه في الحقيقة عدم محض كما تقدم
وقد قام البرهان على وحدانيته تعالى بقوله سبحانه :
« لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا » ..{الأنبياء: 22}
وقوله :أقرب إليك من كل شيء أي بعلمه وإحاطته وتدبيره . كما قال تعالى في كتابه المجيد :
« ونحن أقرب إليه من حبل الوريد » .. {ق: 16}
وقوله : ولولاه ما كان وجود كل شيء هو بمعنى قوله أولا وهو الذي أظهر كل شيء.
ولكون المقصود المبالغة في نفي الحجاب لم يضر هذا التكرار لأن المحل محل إطناب . ثم قال : يا
عجبا كيف يظهر الوجود في العدم أي يجتمع معه وهما ضدان .
أم كيف يثبت الحادث مع من له وصف القدم ؟ حتى يكون حجابا للعظيم المنان .
قال ابن عباد : وهذا الفصل من قوله : الكون كله ظلمة إلى هنا أبدع فيه المؤلف غاية الإبداع وأتى
فيه بما تقر به الأعين وتلذ به الأسماع .  فإنه - رضي الله عنه - ذكر جميع متعلقات الظهور وأبطل
حجابية كل ظلام ونور وأراك فيه الحق رؤية عيان وبرهان ورفعك من مقام الإيمان إلى أعلى مراتب
الإحسان.
كل ذلك في أوجز لفظ وأفصح عبارة وأتم تصريح وألطف إشارة . فلو لم يكن في هذا الكتاب إلا هذا
الفصل لكان كافيا شافيا فجزاه الله عنا خيرا


• • الحكمة السابعة عشرة : ما ترك من الجهل شيئا من أراد أن يحدث في الوقت غير ما أظهره الله فيه
لا تحسبنّ القَدَر يجرى وفق هواك، إنّ وراء الواقع الذى نهُشّ له أو نضيق به حكمًا عليا تجعل
الحوادث تسير، وهى لا صلة لها برضانا أو سخطنا ..
فمن أراد تغيير قدر غالب، وأحبّ تقديم شيء أخّره الله، أو تأخير شيء قدّمه الله، فهو ينطح
الصخر، ولن يستفيد من ذلك إلا تصديع رأسه والعاقل يرسم خطته على أنّ ما حدث حقيقة لا
مناص من الاعتراف بها ثم يبنى سلوكه بعد ذلك وفق ما يشير به الحزم، ويوحي به السّداد
وخير للمرء أن يتّهم هواه من أن يسخط على الزّمن وإنّ أكثر ما ينفع مما ضقت به بادئ الرأى، وأنّ
الآلام المزعجة والشدائد الباهظة هي التى فتقت العقل ونمّت المواهب وأماطت النقاب عما
نجهل من شؤون وشجون . وصدق الله العظيم « وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن
تحبّوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون » .


• • الحكمة الثامنة عشرة : إحالتك الأعمال على وجود الفراغ من رعونات النّفس
أي إحالتك الأعمال الصالحة على وجود الفراغ من أشغال الدنيا تعدّ من رعونات النّفس أي حماقتها
لما في ذلك من إيثار الدّنيا على الآخرة وأشغال الدنيا لا تنقضي ، فما قضى أحد منها لُبانته ولا
انتهى أرب إلا إلى أرَب ، وقال آخر: نروح ونغدو لحاجاتنا وحاجات من عاش لا تنقضي وقد قالوا :
الوقت كالسيف أن لم تقطعه قطعك
وفي الحديث : « ما من يوم إلا وهو ينادي : يا ابن آدم أنا خلق جديد وعلى عملك شهيد فاغتنم
مني فإنّي لا أعود إلى يوم القيامة ».


• • الحكمة التاسعة عشرة : لا تطلب منه أن يخرجك من حالة ، ليستعملك فيما سواها فلو أرادك
– لاستعملك من غير إخراج
أي لا تطلب - أيها المريد - من الله تعالى أن يخرجك من حالة موافقة للشرع دنيوية أو دينية
لتوهّمك أن غيرها أرقى منها لأنه تخيير على مولاك ولا خيرة لك في ذاك
فلو أرادك أي جعلك من أهل إرادته وخاصته لاستعملك استعمالا محبوبا عنده من غير إخراج من
الحالة التي أنت عليها. وأما لو كانت الحالة غير موافقة للشرع فإنه يجب عليك المبادرة وطلب
الإخراج منها والانتقال إلى غيرها .
قيل: فتنة الوقوف عند حالة من المقامات حالة سير السالك أثناء سلوكه.
فإن أقامك عظيم المنّة في عمل موافق للسّنة فهو مقامك الذي يليق بك فلا ترُم خلافه بشهوتك،
لو شاء ربّنا العظيم المالك ومن له التصريف في الممالك لكنت في المطلوب من غير طلب، فارض
بحكم الله والزم الأدب وإن أقامك هواء الطبع في عمل مخالف للشرع فبادر الخروج لا تماطل
واقطع بسيف العزم كل حائل

• • الحكمة العشرون: ما أرادت همّة سالك أن تقف عند ما كشف لها – إلا ونادته هواتف الحقيقة:
الذي تطلب أمامك ، ولا تبرّجت له ظواهر المكونات – إلا ونادته حقائقها
« إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ » {البقرة: 102}

أي ما قصد سالك أي سائر إلى الله تعالى أن يقف بهمته عندما كشف لها من الأنوار والأسرار في
أثناء السير ظناً منه أنه وصل إلى النهاية في المعرفة إلا ونادته هواتف الحقيقة (جمع هاتف وهو
ما يُسمع صوته ولا يرى شخصه ). أي قالت له بلسان الحال: الذي تطلب أمامك فلا تقف
وما ألطف قول أبي الحسن التستري في هذا المعنى:
ولا تلتفت في السير غيراً فكل ما سوى الله غيرٌ فاتخذ ذكره حصنا
وكل مقام لا تقم فيه إنه حجاب فجُدَّ السر واستنجد العونا
ومهما ترى كل المراتب تجتلى عليك فحل عنها فعن مثلها حلنا
وقل ليس لي في غير ذاتك مطلب فلا صورة تجلى ولا طرفة تجنى
وقوله : ولا تبرجت ( أي أظهرت له زينتها ) ظواهر المكونات التي هي كالعروس في تبرجها إلا
ونادته حقائقها أي بواطنها بلسان الحال:
إنما نحن فتنة أي ابتلاء واختبار فلا تكفر أي فلا تفتتن بنا ولا تقف عندنا فتحجب بنا عن معرفة الله
التي لا تتناهى في دار البقاء الأبدية فضلاً عن هذه الدار الدنية وهو كفر بحق المنعم جل شأنه .
وبالجملة فالوقوف بالهمة على شيء دون الحق خسران والاشتغال بطلب ما يقرب إليه كرامة من
الله ورضوان . فجُدَّ في الطلب والتزم حُسن الأدب


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

author
زاد الروح
رسالة الوعي والتفكّر لا حدود لها وهاهنا بعضُ زادٍ منها لنمضي في طريق الوعي الفكري والعلم . مرحبا بكم في « زاد الرّوح » أحد مواقع بوابة يوتوبيا لتطوير الذات وتنمية الشخصية