الخميس، 23 يونيو 2016

الحكم العطائية ( الحكم 41- 50)

الحكم العطائية ( الحكم 41- 50 ) ابن عطـاء الله السّـكندري



• • الحكمة الحادية والأربعون :
« العجب كل العجب ممن يهرب ممّن لا انفكاك له عنه ويطلب ما لا بقاء معه ] فإنها لا تعمى الأبصار، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور{الحج:46}  [ »
- أي العجب الكامل من العبد الذي يهرُب - أي يتباعد من ربّه الذي لا انفكاك له عنه، بأن لا يفعل ما يقرّبه إليه مع توارد إحسانه عليه ، ويطلب ما لا بقاء له معه وهو الدّنيا وكل شيء سوى الله، بأن يقبل على شهواته ويتّبع شيطانه وهواه .. وما ألطف ما قيل لمن هو من هذا القبيل :
تفنى اللذائذ يا من نال شهوته من المعاصي وبيقى الإثم والعار
تبقى عواقب سوء لا انفكاك لها لا خير في لذة من بعدها النّار
وهذا إنّما يكون من عمى البصيرة التي هي عين القلب حيث استبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، وآثر الفاني على الباقي . فإنّها أيّ القصة والشأن وجملة لا تعمى الأبصار خبر مفسر لها.  وفي الآية إشارة إلى أن عمى الأبصار بالنسبة لعمى البصائر كالأعمى، فإنّ عمى الأبصار إنّما يحجب عن المحسوسات الخارجية وأما عمى البصائر أي عيون القلوب فإنّه يحجب عن المعاني القلبية والعلوم الربّانية


• • الحكمة الثانية والأربعون :
« لا ترحل من كون إلى كون، فتكون كحمار الرحى؛ يسير والمكان الذي ارتحل إليه هو الذي ارتحل منه، ولكن ارحل من الأكوان إلى المكون { وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى }{النجم:42}» وانظر إلى قوله صلى الله عليه وسلم: "فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله: فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها: فهجرته إلى ما هاجر إليه ".. فافهم قوله عليه الصلاة والسلام وتأمل هذا الأمر، إن كنت ذا فهم والسلام» .
- أي لا تطلب بأعمالك الصالحة عوضاً ولو في الآخرة . فإن الآخرة كون كالدّنيا والأكوان متساوية في أنّها أغيار وإن وجد في بعضها أنوار بل اطلب وجه الكريم المنّان الذي كوّن الأكوان وفاءً بمقتضى العبودية وقياماً بحقوق الربوبية لتحقق بمقام : { وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى } {النجم:42}
وهذا مقام العافين الذين رغبوا عن طلب الثواب ومحّضوا النّظر إلى الكريم الوهّاب فتحققوا بمقام الإخلاص الناشئ عن التوحيد الخاص.
وأما من فرّ من الرّياء في عباداته وطلب بها الثواب فقد فرّ من كون إلى كون بلا ارتياب فهو كحمار الرحى أي الطاحون يسير ولا ينتقل عما سار منه لرجوعه إليه . وفي هذا التشبيه التنفير عن هذا الأمر ما لا مزيد عليه وانظر إلى قوله صلى الله عليه و سلم في الحديث الصحيح : " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله " أي نية وقصداً " فهجرته إلى الله ورسوله " أي وصولاً . فلم يتحد الشرط والجزاء في المعنى. فقوله : " فهجرته إلى الله ورسوله " هو معنى الارتحال من الأكوان إلى المكون وهو المطلوب من العبد.  وقوله : " فهجرته إلى ما هاجر إليه " هو البقاء مع الأكوان وهو المنهي عنه

• • الحكمة الثالثة والأربعون :
« لا تصحب من لا يُنهضك حاله، ولا يدلّك على الله مقاله »
- أي لا تصحب من لا يرقّيك حاله الذي هو عليه لعدم علوّ همّته فإنّ الطّبع سرّاق كما قال بعضهم: بنيّ اجتنب كل ذي بدعة ولا تصحبنّ من بها يوصف فيسرق طبعك من طبعه وأنت بذلك لا تعرف بل اصحب شيخاً عارفاً ينهضك حاله بأن تكون همته متعلّقة بالله تعالى فلا يلجأ إلا إليه ولا يتوكّل في جميع أموره إلا عليه ويدلّك على الله مقاله لمعرفته بالله تعالى فصحبة الأخيار أصل كبير في طريق القوم وأمّا صحبة الأشرار ففيها كبير اللّوم لما فيها من عظيم الآفات الموجبة إلى رجوع القهقري والانحطاط عن عليّ الدّرجات

• • الحكمة الرابعة والأربعون :
«ربّما كنت مسيئا فأراك الإحسان منك صحبتك من هو أسوأ حالا منك»
- فإنّ صحبتك أي انضمامك إلى من هو أسوأ حالاً منك، سبب لتغطية عيوب نفسك ورؤية كمالها بالنسبة لغيرك، فتقع في مهاوي الإعجاب والزهو بالأعمال التي ربما كانت في الحقيقة كسراب.

• • الحكمة الخامسة والأربعون :
« ما قلَّ عمل برز من قلب زاهد، ولا كثر عمل برز من قلب راغب »
- يعني : أنّ العمل الصّادر من الزّاهد في الدّنيا كثير في المعنى وإن كان قليلاً في الصّورة لسلامته من
الآفات القادحة في قبوله من الرّياء والتصنّع للنّاس وطلب الأعراض الدنيوية بخلاف الصادر من الراغب فيها فإنه على العكس من ذلك. وقد شكا بعض الناس لرجل من الصالحين أنه يعمل أعمال البرّ ولا يجد لها حلاوة في قلبه، فقال : لأن عندك بنت إبليس وهي الدنيا . ولا بد للأب أن يزور ابنته في بيتها وهو قلبك ولا يؤثر دخوله إلا فساداً

• • الحكمة السادسة والأربعون :
« حسن الأعمال: نتائج حسن الأحوال، وحسن الأحوال: من التحقق في مقامات الإنزال »
- أي أنّ الأعمال الحسنة إنّما هي نتائج الأحوال الحسنة القائمة بالقلب من الزهد في الدنيا والإخلاص لله تعالى، لا لطلب حظ عاجل ولا ثواب آجل وحسن الأحوال ناشئ من التحقّق أي التمكّن في مقامات الإنزال أي في المقامات التي تنزل في قلوب العارفين وهو كناية عن المعارف الإلهية التي يوردها الله تعالى على قلوبهم فتكون سبباً في رفع الدعوى وعدم التعلق بغير المولى. وهذه الثلاثة المذكورة مرتّب بعضها على بعض وبهذا اتضح
قول الإمام الغزالي :" لا بد في كل مقام من مقامات اليقين من علم وحال وعمل فالعلم ينتج الحال والحال ينتج العمل ".

• • الحكمة السابعة والأربعون :
« لا تترك الذكر لعدم حضورك مع الله فيه؛ لأن غفلتك عن وجود ذكره أشد من غفلتك في وجود ذكره، فعسى أن يرفعك من ذكر مع وجود غفلة إلى ذكر مع وجود يقظة، ومن ذكر مع وجود يقظة إلى ذكر مع وجود حضور ومن ذكر مع وجود حضور إلى ذكر مع وجود غيبة عما سوى المذكور { وما ذلك على الله بعزيز } [إبراهيم:20] ».
- أي لا تترك - أيها المريد - الذّكر الذي هو منشور الولاية لعدم حضور قلبك مع الله فيه لاشتغاله بالأعراض الدنيوية، بل اذكره على كل حال لأن غفلتك عن وجود ذكره بأن تتركه بالكليّة، أشد من غفلتك في وجود ذكره لأنك في هذه الحالة حرّكت به لسانك وإن كان قلبك غافلاً عن المذكور .
فعسى أن يرفعك أي يرقّيك بفضله من ذكر مع وجود غفلة عنه إلى ذكر مع وجود يقظة أي تيقظ قلب لما يناسب حضرته من الآداب ومن ذكر مع وجود يقظة إلى ذكر مع وجود حضور في حضرة الاقتراب ومن ذكر مع وجود حضور إلى ذكر مع وجود غيبة عما سوى المذكور فتفنى حتى عن الذّكر
وفي هذا المقام ينقطع ذكر اللسان ويكون العبد محواً في وجود العيان كما قال بعض أهل هذا المقام :
ما أن ذكرتك إلا هم يقتلني سري وقلبي وروحي عند ذكراكا
حتى كأن رقيباً منك يهتف بي إياك ويحك والتذكار إياكا
أما ترى الحق قد لاحت شواهده وواصل الكل من معناه معناكا
وإذا صدر ذكر اللسان في هذا المقام فإنه يخرج من غير قصد ولا تدبر بل يكون الحق المبين لسانه الذي ينطق به لأن صاحبه في مقام الحب المشار إليه بالحديث : " لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ولسانه الذي ينطق به " .. إلى آخر الحديث وهذه المراقي لا يعرف حقيقتها إلا السالكون فقابلها بالتسليم إن لم تكن من أهلها
{ وَلَا تَتَّبِعْ أهواء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } [الجاثية :18]  وخذ في الأسباب يرتفع عنك الحجاب  { وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ } [إبراهيم :20].


• • الحكمة الثامنة والأربعون :
« من علامات موت القلب: عدم الحزن على ما فاتك من الموافقات وترك الندم على ما فعلته من وجود الزّلات ».
- أي إنّ عدم حزنك - أيها المريد - على ما فاتك من الموافِقات بكسر الفاء أي الطاعات الموافقة للشّرع، وترك ندمك على ما فعلته من وجود الزلّات أي المعاصي التي توجد منك، علامة موت قلبك. ويفهم منه أنّ سرورك بالطاعة وحزنك على المعصية علامة حياته . لما في الحديث : " من سرّته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن "
فإنّ الأعمال الحسنة علامة على رضا الحقّ ورضاه يقتضي السّرور والأعمال السيئة علامة على غضبه وغضبه يقتضي الحزن.. فمن رضي الله عنه وفّقه لصالح الأعمال، ومن غضب عليه تركه في زوايا الإهمال .. أسأل الله التوفيق لأقوم طريق


• • الحكمة التاسعة والأربعون :
« لا يعظُم الذّنب عندك عظمة تصدّك عن حُسن الظّنّ بالله تعالى فإنّ من عرف ربّه استصغر في جنب كرمه ذنبه »
- أفهم كلامه أن الندم على المعصية حياة القلب أشار بهذا إلى أن المراد النّدم الذي لا يؤدي لليأس من رحمة الله تعالى . فالمطلوب أن تكون خائفاً راجياً فالخوف يحملك على التوبة من الذنب والرجاء يطمعك في القبول فإنّ من عرف ربّه بالّلطف والفضل والامتنان استصغر في جنب كرمه ذنبه
أياً كان . قال الله تعالى : { أنّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } {النّساء : 48}. ولله در القائل :
ذنوبي إن فكرت بها كثيرة ورحمة ربي من ذنوبي أوسع
هو الله مولاي الذي هو خالقي وإنّني له عبد أذل و أخضع
وما طمعي في صالح قد عملته ولكنني في رحمة الله أطمع

• • الحكمة الخمسون :
« لا صغيرة إذا قابلك عدله، ولا كبيرة إذا واجهك فضله »
- أي لا صغيرة من ذنوبك بل كلها كبائر إذا قابلك عدله تعالى فإنّ صفة العدل إذا ظهرت على من أبغضه الله تلاشت حسناته وعادت صغائره كبائر لأنّه يعذبه على أصغر ذنب ولا كبيرة إذا واجهك فضله وهو إعطاء الشيء بغير عوض، فإن صفة الفضل إذا ظهرت لمن أحبه اضمحلت سيئاته وبدلت حسنات
وأنا أقول كما قال الإمام الشاذلي : اللهم اجعل سيئاتنا سيئات من أحببت ولا تجعل حسناتنا حسنات من أبغضت. فالإحسان لا ينفع مع البغض منك والإساءة لا تضر مع الحب منك



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

author
زاد الروح
رسالة الوعي والتفكّر لا حدود لها وهاهنا بعضُ زادٍ منها لنمضي في طريق الوعي الفكري والعلم . مرحبا بكم في « زاد الرّوح » أحد مواقع بوابة يوتوبيا لتطوير الذات وتنمية الشخصية