الأحد، 26 يونيو 2016

الحكم العطائية ( الحكم 71 - 80 )

الحكم العطائية ( الحكم 71 - 80 ) ابن عطـاء الله السّـكندري




• • الحكمة الحادية والسبعون :
« إنّما جعل الدّار الآخرة محلّا لجزاء عباده المؤمنين: لأنّ هذه الدار لا تسع ما يريد أن يعطيهم، ولأنّه أجّل أقدارهم عن أن يجازيهم في دار لا بقاء لها »
- أي إنّما جعل الله تعالى الدار الآخرة محلا لجزاء عباده المؤمنين دون الدنيا لوجهين : الأول أن هذه الدار لا تسع ما يريد أن يعطيهم من صنوف النّعم لما في عدة أخبار من أنّ الله تعالى يعطي لبعض أهل الجنّة أضعاف أمثال الدّنيا . والثّاني أنّه أجّل أيّ أعظم أقدارهم عن أن يجازيهم في دار لا بقاء لها فإنّ كلّ ما يفنى وإن طالت مدته كلا شيء بل أعطاهم في الجنّة النّعيم المقيم ومتّعهم بالنظر إلى وجهه الكريم أسأل الله بجاه نبيه العظيم أن يجعلنا منهم إنه رؤوف رحيم


• • الحكمة الثانية والسبعون :
« من وجد ثمرة عمله عاجلا، فهو دليل على وجود القبول آجلا »
- يعني : أن من وجد ثمرة عمله الصّالح عاجلاً من استئناس مكاشفات وحلاوة مناجاة كما يشير إلى ذلك قوله صلى الله عليه و سلم : " وجعلت قرة عيني في الصلاة " فهو دليل على وجود القبول آجلاً .
قال بعض المحققين في قوله تعالى: { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } {الرحمن:46}، جنة معجلة وهي حلاوة الطاعات ولذاذة المناجاة والاستئناس بفنون المكاشفات . وجنة مؤجلة وهو فنون المثوبات وعلو الدرجات ولا ينبغي للعامل إذا وجد الحلاوة أن يفرح بها أو يقف معها لأنه في الظاهر يكون قائماً لله وفي الباطن إنما قام لحظ نفسه بل لا ينبغي أن يكون عمله لنيلها لما فيها من اللذة والحظ وذلك يقدح في إخلاص عبادته وصدق إرادته وليكن اعتناؤه بحصولها لتكون ميزاناً لأعماله ومحكاً لأحواله


• • الحكمة الثالثة والسبعون :
« إذا أردت أن تعرف قدرك عنده، فانظر فيما يقيمك »
- هذه الحكمة تشير إلى قوله صلّى الله عليه و سلّم : " من أراد أن يعلم منزلته عند الله فلينظر كيف منزلة الله تعالى من قلبه ".
ومما يدور على ألسنة العوام : إذا أردت أن تعرف مقامك فانظر في أي شيء أقامك . وفي الحديث: " اعملوا فكلّ ميسّر لما خلق له " فإذا رضيك الله أيها المريد لحسن طاعتك فاعرف قدرها واشكره على عظيم نعمته

• • الحكمة الرابعة والسبعون :
« متى رزقك الطاعة والغنى به عنها، فاعلم أنه قد أسبغ عليك نعمة ظاهرة وباطنة »
- أي متى رزقك الله الطاعة التي هي امتثال المأمورات واجتناب المنهيات في ظاهرك والغنى به عنها بأن لا تركن إليها بباطنك فاعلم أنه قد أسبغ أي أتم عليك نعمه : ظاهرة وهي تلك الطاعات وباطنة وهي معرفتك التي باعدتك عنها وأوجبت لك رفيع الدرجات . فإن المطلوب من العبد شيئان: إقامة الأمر في الظاهر والتعلق بالله لا غيره في الباطن . فمن رزقه الله هذين الأمرين فقد أسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة وأوصله إلى غاية أمله في الدارين . وقد كان أبو بكر الوراق يقول : إني لأصلّي الركعتين وانصرف عنهما كأني أنصرف عن السرقة استحياء منه

• • الحكمة الخامسة والسبعون :
« خير ما تطلبه منه: ما هو طالبه منك »
- أي خير شيء تطلبه من الله تعالى ما هو طالبه منك من الاستقامة على سبيل العبودية له . فإن هذا خير لك من طلبك لحظوظك ومراداتك دنيوية كانت أو أخروية . ومن دعاء أبي القاسم الجنيد : الّلهم اجعل غاية قصدي إليك ما هو لك ولا تجعل قصدي إليك ما أطلبه منك

• • الحكمة السادسة والسبعون :
« الحزن على فقدان الطاعة مع عدم النهوض إليها: من علامات الاغترار »
- يعني : أنّ الحزن الكاذب على فقدان الطاعة - بكسر الفاء وضمها - أي عدم وجودها في الحال مع عدم النهوض إليها في المستقبل من علامات الاغترار وهو التعلّق بما لا حقيقة له فليس بمقام السالكين الأبرار . وإنما مقامهم الحزن الصادق مع النهوض إليها والبكاء عليها فإنّ صاحب هذا الحزن يقطع من طريق الله تعالى في كل شهر ما لا يقطعه غيره في سنين .

• • الحكمة السابعة والسبعون :
« ما العارف من إذا أشار وجد الحقّ أقرب إليه من إشارته، بل العارف من لا إشارة له؛ لفنائه في وجوده، وانطوائه في شهوده »
- يعني ليس العارف الكامل في المعرفة من إذا أشار إلى شيء من أسرار التوحيد وجد الحق تعالى وشهده قبل تلك الإشارة لأنه حينئذ يكون باقياً مع نفسه وملاحظاً أن هناك إشارة ومشيراً فهو مع الأغيار. بل العارف الكامل من لا إشارة له أصلاً مشهودة لفنائه عنها في وجوده تعالى فلا يشهد إلا إياه . وقوله : ( وانطوائه في شهوده ) عطف تفسير .
والإشارة عند الصوفية هي : إفادة أسرار التوحيد بالكناية والتلويح . قال الشبلي : وكل إشارة أشار بها الخلق إلى الحق فهي مردودة عليهم حتى يشيروا إلى الحق بالحق وليس لهم إلى ذلك طريق . ولذا قال الشيخ يوسف العجمي : من تكلم في مقام الجمع فليس بمتكلم وإنما المتكلم الحق سبحانه وتعالى على لسان عبده وهو قوله في الخبر القدسي : " فبي يسمع وبي يبصر وبي ينطق " . وسئل بعضهم عن الفناء فقال : هو تبدو العظمة على العبد فتنسيه الدنيا والآخرة والدرجات والأحوال والمقامات والأذكار وتفنيه عن كل شيء حتى عن نفسه وعن فنائه عن الأشياء وعن فنائه عن الفناء فيستغرق في التعظيم.

• • الحكمة الثامنة والسبعون :
« الرجاء: ما قارنه عمل، وإلا فهو أمنية »
- يعني : أن الرجاء الصادق الذي هو مقام شريف من مقامات اليقين هو  ما قارنه عمل لأن الرجاء الحقيقي ما كان باعثا على الاجتهاد في الأعمال لأن من رجا شيئا طلبه وإلا فهو أمنية أي مجرد أمنية لا طائل تحتها.
وفي الحديث : " الكيّس - أي العاقل - من دان نفسه - أي حاسبها - وعمل لما بعد الموت . والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني " . وقال الحسن رضي الله عنه : أن قوما ألهتهم أماني المغفرة حتى خرجوا من الدنيا وليس لهم حسنة يقول أحدهم : أحسن الظنّ بربي وهو يكذب لو أحسن الظن بربه لأحسن العمل وتلا قوله تعالى : 
{ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمْ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنْ الْخَاسِرِينَ } {فصلت:23}
ورحم الله القائل :
يا من يريد منازل الأبدال من غير قصد منه للأعمال
لا تطمعن فيها فلست من أهلها إن لم تزاحمهم على الأحوال 

• • الحكمة التاسعة والسبعون :
« مطلب العارفين من الله: الصّدق في العبودية، والقيام بحقوق الربوبيّة»
- يعني: أنّ مطلب العارفين من ربّهم أعلى من مطلب غيرهم سواء كانوا عبادا أو زهادا . فإنّ مطلب العارفين إنّما هو الصّدق أي الإخلاص في العبوديّة والقيام بحقوق الربوبيّة فقط من غير مراعاة حظ ولا بقاء مع نفس . وأما من عداهم فلم يفارقوا الحظوظ والأغراض في مطالبهم. وشتّان بين من همته الحور والقصور وبين من همته رفع الستور ودوام الحضور
  
• • الحكمة الثمانون :
« بسَطك كي لا يبقيك مع القبض، وقبَضك كي لا يتركك مع البسط، وأخرجك عنهما كي لا تكون لشيء دونه.»
- أي بسطك مولاك - أيها العارف - كي لا يبقيك مع القبض الذي فيه قهر لنفسك وإن كان فيه نفع لك، وقبضك كي لا يتركك مع البسط الذي فيه حظ لها وأخرجك عنهما بفنائك عن نفسك وبقائك به كي لاتكون لشيء دونه . فالقبض والبسط من الأحوال التي يتلون بها العارفون . وهما بمنزلة الخوف والرجاء للمريدين المبتدئين . وسببهما الواردات التي ترد على باطن العبد فإذا تجلى للقلب وارد الجلال حصل فيه القبض وإذا تجلى له وارد الجمال حصل فيه البسط . والمقصود هاهنا أنهما وصفان ناقصان بالنسبة إلى ما فوقهما وهو فناؤه عن نفسه وبقاؤه بالله . فإن بقاء العارف مع شيء من أوصافه المؤنسة أو المؤلمة حجاب عن مولاه


• •   • •   • •   • •

  
السابق لا تحزن (4) التالي موسوعة أسماء الله الحسنى (الوهّاب)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

author
زاد الروح
رسالة الوعي والتفكّر لا حدود لها وهاهنا بعضُ زادٍ منها لنمضي في طريق الوعي الفكري والعلم . مرحبا بكم في « زاد الرّوح » أحد مواقع بوابة يوتوبيا لتطوير الذات وتنمية الشخصية