الجمعة، 13 مايو 2016

الحكم العطائية ( الحكم 31- 40)

الحكم العطائية ( الحكم 31- 40 ) ابن عطـاء الله السّـكندري



• • الحكمة الحادية والثلاثون : « اهتدى الرّاحلون إليه بأنوار التوجّه، والواصلون لهم أنوار المواجهة. فالأوّلون للأنوار ، وهؤلاء الأنوار لهم؛ لأنهم لله، لا لشيء دونه « قُلْ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ » {الأنعام: 91}
أي اهتدى السالكون السائرون إلى الله تعالى بأنوار التوجّه أي الأنوار الناشئة من العبادات والرياضات التي توجهوا بها إلى حضرة الرب فإن الله تعالى يقول : « وَالَّذِينَ جَاهدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا » {العنكبوت: 69}
والواصلون إلى الله تعالى لهم أنوار المواجهة أي التّقرّب والتّحبّب. فالأولون عبيد للأنوار لاحتياجهم إليها في الوصول إلى مقصودهم . وهؤلاء - أي الواصلون - الأنوار لهم، لأنّهم لله لا لشيء دونه عملاً بإشارة قوله تعالى : « قُلْ اللَّهُ » أي توجه إليه ولا تمِل إلى أنوار ولا غيرها « ثُمَّ ذَرْهُمْ » أي اتركهم « فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ». فإفراد التوحيد بعد فناء الأغيار هو حق اليقين . ورؤية ما سوى الله خوض ولعب

• • الحكمة الثانية والثلاثون :  « تشوّفك إلى ما بطن فيك من العيوب - خير من تشوّفك إلى ما حُجب عنك من الغيوب »
تشوّفك -بالفاء في الموضعين- أي تطلّعك بعين البصيرة إلى ما بطن أي خفي فيك من العيوب والأمراض القلبية كالكِبر والحقد والعُجب والرّياء والسّمعة والمداهنة وحبّ الرّياسة والجّاه ونحو ذلك، حتى تتوجّه همّتك إلى زوال ذلك بالرياضة والمجاهدة خصوصا على يد شيخ عارف خير لك من تطلعك إلى ما حُجب عنك من الغيوب -أي ما غاب عنك- كالأسرار الإلهية والكرامات الكونية لأن هذا حظّ نفسك وذلك واجب عليك لربّك .  فإنّ نفسك تطلب الكرامة ومولاك مطالبك بالاستقامة ولأن تكون بحقّ مولاك خير من أن تكون بحظ نفسك وهواك .  وهذه الحكمة عمدة في طريق القوم فطهّر نفسك من أنواع الرذائل قبل أن يتوجّه إليها الّلوم

• • الحكمة الثالثة والثلاثون : « الحق ليس بمحجوب، وإنّما المحجوب أنت عن النّظر إذ لو حجبه شيء - لستره ما حجبه، ولو كان له ساتر - لكان لوجوده حاصر وكلّ حاصر لشيء فهو له قاهر . « وَهُوَ الْقَاهرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ». {الأنعام - 18 } »
يعني أنّ الحجاب لا يتّصف به الحقّ سبحانه وتعالى لاستحالته في حقّه وإنّما المحجوب أنت أيها العبد بصفاتك النّفسانيّة عن النّظر إليه فإن رُمتَ الوصول فابحث عن عيوب نفسك وعالجها فإنّ الحجاب يرتفع عنك فتصل إلى النّظر إليه بعين بصيرتك وهو مقام الإحسان الذي يعبرون عنه بمقام المشاهدة وقد استدل المصنِّف على استحالة الحجاب على ربّ الأرباب بقوله :
إذ لو حجبه شيء لستره ما حجبه أي عن النّظر إليه ولو كان له ساتراً لكان لوجوده أي ذاته حاصر أي محيط به لاستلزام السّاتر لانحصار المستور فيه وكل حاصر لشيء فهو له قاهر لأنه يجعله في أسر قبضته وتحت حكمه وذلك لا يصح في حقه تعالى لقوله في كتابه: 
« وَهُوَ الْقَاهرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ». {الأنعام - 18 }  
فوقية معنوية لا مكانية فإنّه تعالى منزّه عن الزمان و المكان

• • الحكمة الرابعة والثلاثون : « أخرج من أوصاف بشريّتك عن كلّ وصف منافٍ لعبوديتك لتكون لنداء الحقّ مجيباً ومن حضرته قريباً »
أوصاف البشرية إما ظاهرة وهي أعمال الجوارح . وإما باطنة وهي أعمال القلب .  وكل منهما إما طاعة وإما معصية . والنّظر فيما يتعلق بالأعمال الظاهرة من طاعة أو معصية يسمى تفقّهاً . وفيما يتعلق بالأعمال الباطنة يسمى تصوفاً . ومتى صلح الباطن صلح الظاهر فإنّ القلب كالملك والجوارح كالجنود التي لا تتخلف عن طاعته . وصلاحه إنّما يكون بالتخلّي عن كل وصف مناقض للعبودية كالكِبر والعجب والرّياء وغير ذلك والتّحلي بالأوصاف المحمودة التي تقرّبه إلى السّيد المالك كالتّواضع والحِلم والرضا والإخلاص في العبودية إلى غير ذلك من أوصاف الإيمان التي يكتسب بها أبهى مزيّة .
فإذا تخلّق المريد بذلك ناداه الحق بقوله له : يا عبدي فيجيبه حينئذ بقوله : لبيك يا ربي فيكون صادقا في إجابته محققا لنسبته . وهذه هي العبودية الخاصة لأن العبودية قسمان : عبودية ملك وقهر وهي عامة لكل المخلوقات كما في قوله تعالى:
« أن كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَانِ عَبْدًا » {مريم - 93 }
وعبوديّة خاصة بأحبابه وهي المرادة بقول القاضي عياض :
ومما زادني شرفا وتيها وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا
ويكون أيضا من حضرته تعالى قريباً لبعده عن نفسه التي من شأنها النفور عنها والفرار منها فمرتبة العبودية أنالته هذه الخصوصية . واعلم أن المراد بحضرة الله تعالى - حيث أطلقت في لسان القوم - شهود العبد أنه بين يدي الله تعالى فما دام هذا مشهده فهو في حضرة الله تعالى فإذا حجب عن هذا المشهد فقد خرج منها . ثم أن هذا السلوك لا يتيسر إلا لمن حاسب نفسه وأخذ حذره منها

• • الحكمة الخامسة والثلاثون :  « أصل كلّ معصية وغفلة وشهوة - الرّضا عن النفس وأصل كلّ طاعة ويقظة وعفّة، عدم الرّضا منك عنها. ولأن تصحب جاهلا، لا يرضى عن نفسه - خير لك من أن تصحب عالماً، يرضى عن نفسه، فأيّ علم لعالمٍ يرضى عن نفسه ؟ وأي جهل لجاهل لا يرضى عن نفسه ؟ »
يعني أنّ النّظر إلى النّفس بعين الرّضا يوجب تغطية عيوبها ويصير قبيحها حسناً. والنظر إليها بعين السّخط يكون بضدّ ذلك على حد قول القائل :  
وعين الرضا عن كل عيب كليلة..كما أن عين السخط تبدي المساويا فمن رضي عن نفسه استحسن حالها فتستولي عليه الغفلة عن الله تعالى فينصرف قلبه عن مراعاة خواطره فتثور عليه الشهوة وتغلبه لعدم وجود المراقبة القلبية التي تدفعها فيقع في المعاصي لا محالة.
فعطف الغفلة والشّهوة على المعصية من عطف السّبب على المسبّب. وكذا عطف اليقظة والعفّة على الطاعة فإنّ اليقظة التي هي التنبّه لما يرضي الله تعالى والعفة التي هي علو الهمّة عن الشهوات يتسبّب عنهما الطاعة التي هي اتباع المأمورات واجتناب المنهيات. وإنّما كان الرّضا عن النّفس أصل كل المعصية لأنّها أمّارة بالسّوء فهي العدو الملازم  و في الحديث: " أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك "  . 
وناهيك قول يوسف الصديق : « وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي أن النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ » {يوسف:53 }
ولله در الإمام البوصيري حيث قال:
وخالف النّفس والشيطان واعصهما .. وإن هما محضاك النّصح فاتهم 
ولا تطع منهما خصماً ولا حكما .. فأنت تعرف كيد الخصم والحكم
ولما كان الرّضا عن النّفس من شأن من يتعاطى العلوم الظاهرية التي لا تدل على عيوب النّفس نهى المصنف عن صحبتهم بقوله : ولأن تصحب - بفتح لام الابتداء الداخلة على أن المصدرية - أي لَصُحْبَتُكَ جاهلا لا يرضى عن نفسه خير لك في تحصيل فائدة الصحبة التي هي الزيادة في حالك من أن تصحب عالماً بالعلوم الظاهرية يرضى عن نفسه . فإن المدار في الانتفاع بالصّحبة إنّما هو على العلم بعظمة الله وجلاله وإحسانه الذي ينشأ عنه معرفة النفس وعيوبها لا على العلوم العقلية والنقلية . فأيّ علم أي نافع لعالم بالعلوم الظاهرية يرضى عن نفسه.  و أيّ جهل ضار لجاهل بالعلوم الظاهرية لا يرضى عن نفسه لعلمه بعيوبها فإنه وإن قَلَّتْ بضاعته من الأحكام لا بد أن يحصلها بالوقائع على مدى الأيام فلا ينبغي للمريد أن يصحب إلا من يكون عارفاً بعيوب نفسه غير راض عنها ليقتدي به في أفعاله فإن الطبع سراق . كما قال بعضهم :
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه .. فكل قرين بالمقارنة يقتدي
إذا كنت في قوم فصاحب خيارهم .. ولا تصحب الأردى فتردى مع الردى

• • الحكمة السادسة والثلاثون : « شعاع البصيرة يُشهدك قُربه منك، وعين البصيرة تُشهدك عدمك لوجوده وحق البصيرة - يشهدك وجوده، لا عدمك ، ولا وجودك ».
يشير إلى ثلاث مراتب : فشعاع البصيرة ويعبّر عنه بنور العقل وبعلم اليقين يشهدك قربه تعالى منك قرب علم وإحاطة فتستحي منه أن يراك حيث نهاك أو يفقدك حيث أمرك.  
وعين البصيرة ويعبر عنه بنور العلم وبعين اليقين يشهدك عدمك لوجوده الذي تضمحل الموجودات معه فإن وجودها عارية منه وعند ذلك لا يبقى في نظرك ما تستند إليه سواه فإنك إذ ذاك لا تشهد إلا إياه . وحق البصيرة ويعبر عنه بنور الحق وبحق اليقين يشهدك وجوده لا عدمك ولا وجودك فتكون في مشاهدة الحق حال كونك في مقام الفناء الكامل الذي تفنى فيه حتى عن فنائك استهلاكاً في وجود سيدك وبعد الفنا في الله كن ما تشا فعلمك لا جهل وفعلك لا وزر

• • الحكمة السابعة والثلاثون :  «كان الله ولا شيء معه وهو - الآن - على ما عليه كان »
أيّ كينونة لا يصحبها زمان ولا مكان فإنهما من مخلوقاته  والمراد بهذه الحكمة أنه لا شيء معه في أبده كما لم يكن معه شيء في أزله لثبوت أحديته . يوضح ذلك قوله فيما سيأتي : الأكوان ثابتة بإثباته ممحوة بأحدية ذاته

• • الحكمة الثامنة والثلاثون :  « لا تتعدّ نيّة همّتك إلى غيره، فالكريم لا تتخطاه الآمال »
أي لا تجعل قصدك متعدّيا إلى غيره تعالى، فالكريم لا تتخطّاه آمال المؤملين. فإنّ ذا الهمّة العليّة يأنف من رفع حوائجه إلى غير كريم ولا كريم على الحقيقة إلا ربّ العالمين .  وأجمع العبارات في معنى وصف الكريم ما قيل : " الكريم هو الذي إذا قدر عفا، وإذا وعد وفى، وإذا أعطى زاد على منتهى الرجاء، ولا يبالي كم أعطى، ولا لمن أعطى، وإن رفعت حاجة إلى غيره لا يرضى، وإذا جفي عاتب وما استقصى، ولا يضيع من لاذ به والتجا ويغنيه عن الوسائل والشفعاء" .  
فإذا كانت هذه الصفات لا يستحقها أحد سوى الله تعالى فينبغي أن لا تتخطاه آمال المؤملين .
كما قال بعض العارفين :
حرام على من وحّد الله ربّه وأفرده أن يجتدي أحداً رفدا
ويا صاحبي قف بي مع الحقّ وقفة أموت بها وجداً وأحيا بها وجدا
وقل لملوك الأرض تجهد جهدها فذا الملك ملك لا يباع ولا يهدى

• • الحكمة التاسعة والثلاثون :  « لا ترفعنَّ إلى غيره حاجة، هو موردها عليك، فكيف يرفع غيره ما كان هو له واضعا ؟ من لا يستطيع أن يرفع حاجة عن نفسه - فكيف يستطيع أن يكون لها عن غير رافعا ؟ »
أي لا ترفعنّ إلى غيره تعالى حاجة كفقر أو نازلة هو موردها عليك اختباراً لك بل ارفع إليه ذلك فإنه سبحانه يحبّ أن يسأل وفي الحديث : " من لم يسأل الله يغضب عليه ". وما ألطف قول بعضهم: لا تسألن بني آدم حاجة وسل الذي أبوابه لا تحجب فالله يغضب أن تركت سؤاله وبني آدم حين يسأل يغضب ومن المحال أن يرفع غيره سبحانه ما كان هو له واضعاً فإنّ الله غالب على أمره والعبد شأنه العجز عن رفع النازلة عن نفسه فكيف يستطيع أن يرفعها عن غيره ؟ فالطلب من الخلق غرور وباطل وليس تحته عند أرباب البصيرة طائل وهذا إذا كان على وجه الاعتماد عليهم والاستناد إليهم مع الغفلة في حال الطلب عن الله تعالى . وأما إذا كان من باب الأخذ بالأسباب مع النظر إلى أن  المعطي في الحقيقة الملك الوهاب فهو من هذا الباب . والله أعلم بالصواب

• • الحكمة الأربعون : « إن لم تحسّن ظنّك به لأجل حُسن وصفه، فحسّن ظنّك به لأجل معاملته
معك، فهل عوّدك إلا حسنا؟ وهل أسدى إليك إلا مننا ؟! ».
اعلم أنّ تحسين الظّن بالله تعالى أحد مقامات اليقين والنّاس فيه على قسمين: فالخاصّة يحسنون الظّن به لاتّصافه بالصّفات العليّة والنّعوت السنية. والعامّة لما عوّدهم به من الإحسان وأوصله إليهم من النّعم الحسان فإن لم تصل - أيها المريد - إلى مقام الخاصّة فحسّن ظنّك به لحُسن معاملته معك فإنّه ما عوّدك إلا عطاءً حسناً ولا أسدى - أي أوصل إليك - إلا مننا  والله عوّدك الجميل فقِس على ما قد مضى . وينبغي للعبد أن يُحسن الظّن بربّه في أمر دنياه وأمر آخرته، أمّا أمر دنياه فأن يكون واثقاً بالله تعالى في إيصال المنافع إليه من غير كدّ ولا سعي، أو بسعي خفيف مأذون فيه مأجور عليه بحيث لا يفوته شيئاً من فرض ولا نفل فيوجب له ذلك سكوناً وراحة في قلبه، فلا يستفزه طلب ولا يزعجه سبب وأما أمر آخرته فأن يكون قويّ الرّجاء في قبول أعماله الصالحة فيوجب له ذلك المبادرة لامتثال الأوامر والتكثير من أعمال البرّ ومن أعظم مواطن حسن الظن بالله تعالى حالة الموت لما في الحديث:
« لا يموتنّ أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله ».  
وورد : « أنا عند ظنّ عبد بي فليظنّ بي ما شاء ».


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

author
زاد الروح
رسالة الوعي والتفكّر لا حدود لها وهاهنا بعضُ زادٍ منها لنمضي في طريق الوعي الفكري والعلم . مرحبا بكم في « زاد الرّوح » أحد مواقع بوابة يوتوبيا لتطوير الذات وتنمية الشخصية