الجمعة، 24 يونيو 2016

الحكم العطائية ( الحكم 51 - 60 )

الحكم العطائية ( الحكم 51 - 60 ) ابن عطـاء الله السّـكندري




• • الحكمة الحادية والخمسون :
«لا عمل أرجى للقلوب من عمل يغيب عنك شهوده ويحتقر عندك وجوده»
- أي لا عمل من أعمال البر أكثر رجاءً للقبول أي لقبول الله له وفي نسخة للقلوب أي لإصلاحها من عمل يغيب عنك شهوده، لأنك إن غبت عن شهود عملك فقد بقيت حينئذ بربك وصار وجود العمل محتقراً عندك لاتهامك لنفسك في القيام بحقه . ولذا قال بعض العارفين : كل شيء من أفعالك إذا اتصلت به رؤيتك فذلك دليل على أنه لا يقبل منك، لأن المقبول مرفوع مغيب عنك وما انقطعت عنه رؤيتك فذلك دليل على القبول، يشير إلى قوله تعالى : « إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ » {فاطر: 10}

• • الحكمة الثانية والخمسون :
« إنّما أورد عليك الوارد لتكون به عليه واردا »
- أي إنما أورد الله عليك الوارد وهو ما يرد على قلبك من المعارف الربانية واللطائف الرحمانية، لتكون به أي بذلك الوارد المطهر لقلبك عليه سبحانه وارداً . فإن الحضرة منزهة عن كل قلب متكدر بالآثار متلوث بأقذار الأغيار
ولذا قال المصنف : أي لا تطلب بأعمالك الصالحة عوضاً ولو في الآخرة، فإن الآخرة كون كالدنيا والأكوان متساوية في أنها أغيار وإن وجد في بعضها أنوار بل اطلب وجه الكريم المنان الذي كون الأكوان وفاءً بمقتضى العبودية وقياماً بحقوق الربوبية لتحقق بمقام : { وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى } {النجم:42}
وهذا مقام العافين الذين رغبوا عن طلب الثواب ومحضوا النظر إلى الكريم الوهاب فتحققوا بمقام الإخلاص الناشئ عن التوحيد الخاص وأما من فر من الرياء في عباداته وطلب بها الثواب فقد فر
من كون إلى كون بلا ارتياب فهو كحمار الرحى أي الطاحون يسير ولا ينتقل عما سار منه لرجوعه إليه . وفي هذا التشبيه التنفير عن هذا الأمر ما لا مزيد عليه وانظر إلى قوله صلى الله عليه و سلم في الحديث الصحيح : " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله  ورسوله "، أي نية وقصداً " فهجرته إلى الله ورسوله " أي صولاً .
فلم يتحد الشرط والجزاء في المعنى . فقوله : " فهجرته إلى الله ورسوله " هو معنى الارتحال من

• • الحكمة الثالثة والخمسون :
« أورد عليك الوارد ليستعملك من يد الأغيار، ويحررك من رق الآثار »
- فالأغيار والآثار التي هي من أعراض الدنيا وشهوات النّفس غاصبة لك لحبك لها وسكونك إليها . فأورد عليك الوارد ليستلمك قهراً من يد من غصبك ويحررك من ملكية من استرقّك فتكون حينئذ صالحاً لعبوديته ومشاهداً لعظمة ربوبيته

• • الحكمة الرابعة والخمسون :
« أورد عليك الوارد ليخرجك من سجن وجودك إلى فضاء شهودك
- فإن وجودك الشبيه بالسجن هو شهودك لنفسك ومراعاتك لحظك وشهودك الشبيه بالفضاء في السعة هو أن تغيب عن ذلك بمشاهدتك عظمة ربك . ولذا قال بعضهم : سجنُك نفسُك إذا خرجت منها وقعت في راحة الأبد


• • الحكمة الخامسة والخمسون :
« الأنوار مطايا القلوب والأسرار »
- أي أنّ الأنوار الإلهية التي تردُ على قلب المُريد وتحصل غالباً من الأذكار. والرياضات هي مطايا القلوب والأسرار جمع سر وهو باطن القلب، أي توصلها إلى مطلوبها الذي هو متوجهة إليه وهو دخولها حضرة القرب من الله تعالى كما أن المطية توصل راكبها إلى مطلوبه

• • الحكمة السادسة والخمسون :
« النّور جند القلب كما أنّ الظلمة جند النّفس، فإذا أراد الله أن ينصر عبده: أمده بجنود الأنوار، وقطع عنه مدد الظّلم والأغيار »
-  يعني أنّ النّور للقلب في كونه يتوصّل به إلى مقصده وهو حضرة الرب بمنزلة الجند للأمير في كونه يتوصل به إلى مقصوده من قهر أعدائه.  كما أن الظلمة التي هي من وساوس الشيطان جند النّفس الأمارة بالسوء - دون المطمئنة فإنها توافق العقل أبداً - .
ومقصد النّفس الأمارة الشهوات والأغراض العاجلة . فلا يزال الحرب بينهما وبين العقل . فإذا أراد الله أن ينصر عبده أي يعينه على قمع شهواته أمده أي أمد قلبه الذي فيه العقل بجنود الأنوار أي بالأنوار الشبيهة بالجنود أو بجنود هي الأنوار وقطع عنه مدد الظُّلَم - بفتح اللام جمع ظلمَة - أي مدداً هو الظلَم .
وعطف الأغيار عليه من عطف المرادف يعني وإذا أراد خذلانه فعلى العكس من ذلك . فعلى العبد أن يفزع إلى ربّه عند التقاء الصفّين ويسأله الإعانة على النفس الأمارة بالسوء متوسلاً بسيد الكونين .
قال ابن عباد : وهذه العبارات الخمس من قوله إنّما أورد عليك الوارد إلى هنا تفنّن فيها صاحب الكتاب وكرّرها بألفاظ مختلفة والمعاني فيها متقاربة وهذه عادته في مواضع كثيرة من كتاب الحكم العطائية

• • الحكمة السابعة والخمسون :
« النّور له الكشف، والبصيرة لها الحُكم، والقلب له الإقبال والإدبار »
- يعني أنّ النّور الذي يقذفه الله في قلب المُريد وهو العلم الّلدني له الكشف، أي كشف المعاني كحسن الطاعة وقبح المعصية والبصيرة التي هي عين القلب لها الحكم أي إدراك الأمر الذي شاهدته وكُشف لها عنه بالنور فإنّه كما لا يمكن إدراك البصر للمحسوسات إلا بالأنوار الظاهرة كالشّمس والسّراج لا يمكن إدراك البصيرة لشيء من المعاني إلا بالأنوار الباطنية والقلب له الإقبال على ما كشف للبصيرة وحكمت بحسنه كالطاعة والإدبار عما كشف لها وحكمت بقبحه كالمعصية وحينئذ تتبعه الجوارح لما في الحديث : " ألا وإنّ في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب "،كما تقدّم.

• • الحكمة الثامنة والخمسون :
« لا تُفرحك الطّاعة لأنها برزت منك، وافرح بها لأنها برزت من الله إليك؛ { قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ } [يونس:58] »
- أي لا يكون فرحك بالطاعة لأجل كونها برزت منك فإنك إذا فرحت بها من هذه الحيثية أورثتك العجب المحبط لها لأنك شاهدت أنها بحولك وقوتك .
وإنما يكون فرحك بها لأجل كونها برزت من الله إليك وتفضل بها عليك قال تعالى: « وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ » {الصافات:96} .
ولذا استدل بآية : « قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ » {يونس: 58}


• • الحكمة التاسعة والخمسون :
« قطع السّائرين له والواصلين إليه عن رؤية أعمالهم وشهود أحوالهم أما السائرون: فلأنهم لم يتحققوا الصّدق مع الله فيها، وأما الواصلون: فلأنه غيبهم بشهوده عنها »
- يعني أن الله تعالى حجب السائرين له عن رؤية أعمالهم ومنع الواصلين إليه عن شهود أحوالهم . فهو لف ونشر مرتب . وخص الواصلين بالأحوال وإن كانت لهم أعمال لأن تلك الأحوال التي هي الأعمال الباطنة الصالحة أفضل من الأعمال الظاهرة فعبر في جانبهم بالأفضل . كما أنه عبر في جانب السائرين بالأعمال وإن كانت لهم أحوال أيضاً لمناسبة ذلك لهم فالسائر إلى الله لا يرى شيئاً من أعماله اتهاماً لنفسه بعدم كماله . والواصل غائب في شهوده حتى عن نفسه فإنه محال أن يراه ويشهد معه سواه. فقد أسبغ الله نعمته على الفريقين وأعطى الفريق الثاني أفضل المنزلتين

• • الحكمة الستون :
« ما بسقت أغصان ذلّ إلا على بذر طمع »
- يقال : بسقت النخلة إذا طالت. قال تعالى : { وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ } {ق:10}
والأغصان جمع غصن وهو ما تشعّب عن سوق الشجر . وقد شبه هنا الذل بشجرة على طريق الاستعارة المكنية وأثبت لها الأغصان تخييلاً وبسقت ترشيح . وإضافة بذر إلى طمع من إضافة المشبه به للمشبه أي طمع شبيه بالبذر أي المبذور الذي تنشأ عنه الشجرة .
والمراد لا تغرس بذر الطمع في قلبك فتخرج شجرة من الذل وتتشعب أغصانها . فإن الطمع أصل جميع الآفات لأنه موجب للوقوع في عظيم المهلكات فلا يزال صاحبه يتملّق إلى الناس حتى يحصل له من نور يقينه الإفلاس مع أن المؤمن ينبغي أن يحرص على عزّة إيمانه المتين ويردد قوله سبحانه { وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } {المنافقون: 8}
ولا يكون ذلك إلا باعتماده على مولاه وقطع طماعيته فيما سواه . فإن من طمع في شيء ذل له وانقاد لحكمه حتى يقال : قاده وذلّه.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

author
زاد الروح
رسالة الوعي والتفكّر لا حدود لها وهاهنا بعضُ زادٍ منها لنمضي في طريق الوعي الفكري والعلم . مرحبا بكم في « زاد الرّوح » أحد مواقع بوابة يوتوبيا لتطوير الذات وتنمية الشخصية