الحكم العطائية ( الحكم 21- 30 ) ابن عطـاء الله السّـكندري
• • الحكمة الحادية والعشرون : طلبك
منه اتّهام له ، وطلبك له غيبة منك عنه .. وطلبك
لغيره ، لقلة حيائك منه ، وطلبك من غيره لوجود بُعدك عنه .
أي طلبك منه تعالى حوائجك معتمداً على الطلب
معتقداً أنه لولاه لما حصل
مطلوبك اتّهام له
تعالى بأنّه لا يرزقك إلا بالطلب ،إذ لو وثقت
به في إيصال منافعك إليك من غير سؤال لما طلبت .
وأما إذا كان الطلب على وجه التعبد امتثالاً
لقوله تعالى: « ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ
» {غافر: 60}
فلا يكون معلولاً وبهذا يجمع بين طلب الدعاء
والنهي عنه .
وكذلك طلبك له تعالى بأن تطلب قربك منه والوصول
إليه بعملك غيبة منك عنه إذ الحاضر لا يطلب
وهو تعالى أقرب إليك من حبل الوريد .
وكذلك طلبك لغيره من الأعراض الدنيوية أو
المراتب الأخروية لقلة حيائك منه إذ لو استحيت منه لم تؤثر عليه سواه وكذلك
طلبك من غيره تعالى غافلاً في حال الطلب عن مولاك إنما يكون لوجود
بعدك عنه إذ لو كان قريباً منك لكان غيره
بعيداً عنك . فالطلب بأوجهه الأربعة معلول
سواء كان
متعلقاً بالحق أو الخلق إلا ما كان على وجه
التعبّد والتأدب واتّباع الأمر وإظهار الفاقة
• • الحكمة الثانية والعشرون
: ما من
نَفَسٍ تبديه إلا وله قدر فيك يمضيه
الّنَّفس بفتح الفاء
جزء من الهواء يخرج من باطن البدن في جزء من الزمن والمعنى ليس من نَفَس
من أنفاسك تبديه
أي تظهره بقدرة الله تعالى إلا وله تعالى فيك قدَر بفتح الدال المهملة أي أمر
مقدَّر ناشئ عن قدرته
وإرادته . يمضيه أي ينفذّه كائناً ما كان فأنت رهن القضاء والقدر في كل
نفس وفي كل طرفة
عين فكن عبدا لله في كل شيء عطاءً ومنعا وعزا وذلاً وقبضا وبسطا وفقدا
ووجدا إلى غير ذلك
من مختلفات الآثار وتنقلات الأطوار فإن الكاملين من أهل الله يراعون الحق في
كل نفس حتى يكونوا
أبداً بالموافقة مع الله تعالى وهذا مقام شريف لا يوفي به إلا أهل العنايات .
ومن غفل في حسابه
خسر في اكتسابه .
وقال بعض العارفين
: من أدرك في نفسه التغيير والتبديل في كل نفس فهو العالم بقوله تعالى :
« كُلَّ يَوْمٍ هُوَ
فِي شَأْنٍ » {الرحمن: 29}
وما ألطف قول بعضهم
: نفذت مقادير الإله وحكمه فأرح فؤادك من لعل
ومن لو
• • الحكمة الثالثة والعشرون
: لا
تترقّب فراغ الأغيار، فإنّ ذلك يقطعك عن وجود المراقبة له فيما هو
مقيمك فيه .
أي لا تنتظر - أيها المريد - انتهاء الأغيار
أي الشّواغل التي منها ما أقامك فيه الحقّ، بل راقبه فيما
تترقّب فراغه فإن تأميلك للوقت الثاني يمنعك
من القيام بحق الوقت الذي أنت فيه والفقير
الصادق
يكون في كل وقت بحسبه ، وسُئل بعض العارفين
متى يستريح الفقير ؟
فقال : إذا لم ير وقتاً غير الوقت الذي هو
فيه وقال بعض المفسرين في قوله تعالى
:
«
وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ».. {الأنبياء: 35}
أي نختبركم بالشّدّة والرخاء والصحة والسقم
والغنى والفقر وقيل
بما تحبون وما تكرهون لننظر
شُكركم فيما تحبّون وصَبَركم فيما تكرهون
• • الحكمة الرابعة والعشرون
: لا
تستغرب وقوع الأكدار ما دمت في هذه الدار، فإنها ما أبرزت إلا ما
هو مستحق وصفها وواجب نعتها .
أي لا تعد وقوع الأكدار أمرا غريبا مدة كونك
في هذه الدار الدنيوية فإنها ما أبرزت أي أظهرت إلا ما
هو مستحق وصفها: أي وصفها المستحق لها وواجب
نعتها: أي نعتها الواجب أي اللازم لها فمن
ضرورياتها وجود المكاره فيها مع الانهماك
عليها كما قال بعض واصفيها طبعت
على كدر وأنت
تريدها صفوا من الأقذاء والأقذار ومكلف
الأيام ضد طباعها متطلب في الماء جَذوةَ نار
ومن كلام جعفر الصادق : من طلب ما لم يُخلق
أتعب نفسه ولم يُرزق قيل له : وما ذاك ؟ قال :
الراحة في الدنيا وأخذ
بعضهم هذا المعنى فقال : تطلب الراحة في دار العنا خاب
من يطلب
شيئاً لا يكون
• • الحكمة الخامسة والعشرون
: ما
توقّف مطلب أنت طالبه بربك ، ولا تيسّر مطلب أنت طالبه
بنفسك
أي ما تعسّر مطلب من مطالب الدّنيا والآخرة
أنت طالبه بربك أي بالاعتماد عليه والتوسل إليه.
فمتى أنزلت حوائجك به فقد تمسّكت بأقوى سبب
وفزت بقضائها من أفضاله بغير تعب .
« وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ
حَسْبُهُ ».. {الطلاق: 3}
ومعنى قوله : ولا تيسر مطلب أنت طالبه بنفسك
أنك لو اعتمدت - أيها المريد - على حولك وقوتك
تعسّرت عليك المطالب ولم تتحصل على بغيتك
• • الحكمة السادسة والعشرون
: من
علامات النُّجح في النهايات - الرّجوع إلى الله في البدايات
أي من العلامات الدّالة على النُّجح - بضمّ
النّون - أي الظَّفر للمريد بمقصوده في نهايته الرجوع
إلى الله تعالى بالتّوكّل عليه والاستعانة
به في بدايته فمن صَحّح بدايته بالرّجوع إلى الله والتّوكل
عليه في جميع أموره نجح في نهايته التي هي
حال وصوله إلى مطلوبه وفاز بما يقرّبه لديه وأمّا
من لم يصحّح بدايته بما ذكر انقطع عن الوصول
ولم يبلغ في نهاية أمره المأمول قال بعض
العارفين: من ظن أنّه يصل إلى الله بغير الله
قطع به. ومن استعان على عبادة الله بنفسه
وُكّل
إلى نفسه
• • الحكمة السابعة والعشرون
: من أشرقت بدايته أشرقت نهايته.
أي من عمّر أوقاته
في حال سلوكه بأنواع الطاعة وملازمة الأوراد أشرقت نهايته بإفاضة الأنوار
والمعارف حتى يظفر
بالمراد . وأما من كان قليل الاجتهاد في البداية فإنّه لا ينال مزيد الإشراق
في النهاية
• • الحكمة الثامنة والعشرون
: « ما استُودع في غيب السرائر ظهر في شهادة الظواهر »
هذه علامات يعرف
بها حال المريد السالك فإنَّ الظاهر عنوان الباطن . فمن طابت سريرته حُمدت
سيرته ومهما تكن
عند امرئ من خليقة وإن خالها تخف عن الناس تعلم ، وقال آخر :
دلائل الحب لا تخفى
على أحد كحامل المسك لا يخفى إذا عبقا فما في القلب من محمود أو
مذموم يظهر على الجوارح
، لما في الحديث : « لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه »
فمن ادّعى بقلبه
معرفة الله تعالى ومحبّته ولم تظهر على ظاهره ثمرات ذلك من الّلهج بذكره
والمسارعة إلى اتّباع
أمره والفرار من القواطع الشّاغلة عنه والاضطراب عن الوسائط المبعدة منه
فهو كذّاب في دعواه
متّخذ إله هواه
• • الحكمة التاسعة والعشرون
: « شتّان بين من يَستدل به، أو يستدل عليه: المستدِلّ به – عرف
الحق لأهله؛ وأثبت
الأمر من وجود أصله، والاستدلال عليه - من عدم الوصول إليه وإلا فمتى غاب؛
حتى يُستدل عليه
؟ ومتى بعُد ؛حتى تكون الآثار هي التي توصل إليه ؟ ».
شتّان اسم فعل ماض
بمعنى بعد . أي بعد ما بين من يستدل به تعالى على المخلوقات وهم
المراودون أهل الشهود
أو بمعنى الواو أي وبين من يستدل عليه تعالى بالمخلوقات وهم المريدون
أهل السلوك . فأحوال
هذين الفريقين متفاوتة في الرتبة . فالمستدل به تعالى على غيره عرف
الحق وهو الوجود
الذاتي لأهله وهو الله تعالى وأثبت الأمر أي وجود الحوادث من وجود أصله وهو
الله تعالى أي جعل
وجودهم مستفادا من وجوده إذ لولا إيجاده لهم لما وجدوا وهؤلاء هم أهل
الجذب الذين جذبتهم
يد العناية إما ابتداء أو بعد السلوك وهم العارفون بربهم فلا يشهدون غيره
ولذلك يستدلون به
على الأشياء في حال تدليهم وأما الاستدلال عليه تعالى فلا يكون إلا من عدم
الوصول إليه لأن
السالك يكون محجوباً بالآثار فيستدل بها على من كور الليل والنهار فيكون من
الاستدلال بالمجهول
على المعلوم وبالمعدوم على الموجود وبالأمر الخفي على الظاهر الجلي .
وذلك لوجود الحجاب
ووقوفه مع الأسباب .
وإلا فمتى غاب الحق
حتى يستدل بمخلوقاته عليه ومتى بعد حتى تكون الآثار الناشئة عن قدرته
هي التي توصل إليه
. وما ألطف قول بعض أهل الشهود في هذا المقام المحمود عجيب لمن
يبغي عليك شهادة
وأنت الذي أشهدته كل مشهد
قال ابن عباد نقلا
عن لطائف المنن : واعلم أنّ الأدلّة إنّما تنصب لمن يطلب الحقّ لا لمن يشهده
لأن الشّاهد غني
بوضوح الشهود عن أن يحتاج إلى دليل فتكون المعرفة باعتبار توصيل الوسائل
إليها كسبية ثم تعود
في نهايتها ضرورية . وإذا كان من الكائنات ما هو غني بوضوحه عن إقامة
دليل فالمكون أولى
بغناه عن الدليل منها . ثم قال : ومن أعجب العجائب أن تكون الكائنات موصلة
إليه . فليت شعري
هل لها وجود معه حتى توصل إليه ؟ أو هل لها من الوضوح ما ليس له حتى
تكون هي المظهرة
له ؟ وإن الكائنات موصلة إليه فليس لها ذلك من حيث ذاتها لكن هو الذي
ولّاها رتبة التوصيل
فوصلت فما وصل إليه غير إلهيته . ولكن الحكيم هو واضع الأسباب وهي لمن
وقف عندها ولم تنفذ
قدرته عين الحجاب
• • الحكمة الثلاثون : « لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ » الواصلون إليه «
وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ » السائرون إليه
{الطلاق: 7}
أي لينفق الفريق
صاحب السّعة في المعرفة وعلوم الأسرار من سعته وهم الواصلون إليه تعالى
فيفيضون على غيرهم
مما آتاهم الله ويتصرّفون في العوالم كيف شاءوا ومن قدر بضم القاف وكسر
الدال المهملة أي
والفريق الذي ضيّق عليه رزقه من ذلك فلينفق مما آتاه الله على قدر ما أعطاه
وهم السائرون إليه
تعالى فقوله الواصلون خبر مبتدأ محذوف أي هم
الواصلون إليه وكذلك
السائرون
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق